عاجل: اندلاع حريق في مصنع كيماويات بمركز بلبيس في الشرقية والدفع بسيارات إطفاء لإخماد النيران وفق صحف محلية.
عمار الشريعي.. حين تحوّل الظلام إلى لحن
تقرير
المراية
منار تامر
4/18/20251 دقيقة قراءة


في زمنٍ تتكدّس فيه الأصوات وتضيع الملامح وسط ضجيج الحياة، يبقى هناك من لا يُنسى، هناك من يمرّون في الحياة مرور العابرين، وهناك من يصنعون لحياتنا موسيقى، موسيقى نعيش بها، نحزن، نفرح، نشتاق، ونحلم.
كان عمار الشريعي واحدًا من هؤلاء النادرين، لم يكن فقط موسيقارًا موهوبًا، بل كان رائدًا من روّاد النور، رجلًا استثنائيًا تحدّى الظلام، وأضاء لنا الدروب بمقطوعاتٍ من القلب، من الروح، من الحياة نفسها.
وُلد عمار الشريعي في السادس عشر من أبريل عام 1948، في مدينة سمالوط بمحافظة المنيا، قلب صعيد مصر، حيث النيل يحكي حكايات الجدود، وحيث يُولد الموال قبل أن يُنطق.
جاء إلى الدنيا كفيف البصر، لكنه مُبصر الروح، فلم يكن بحاجة إلى العينين ليُبصر الجمال، فقد وُهب أذنًا موسيقية نادرة، وموهبة تشبه المعجزة.
في بيتٍ متواضع، وسط أسرة صعيدية محافظة، بدأ الطفل عمار يسمع العالم بطريقة مختلفة، لم يكن يسمعه فقط كأصوات، بل كموسيقى، كأنغام لها روح.
كانت والدته أول من شعر بأن طفلها يملك شيئًا مختلفًا، لم ترَ فيه العجز، بل رأت قوةً تنتظر أن تنكشف، فكانت تقرأ له الحكايات، وتقصّ عليه القصص، حتى تعلم أن يتخيّل، أن يحلم، أن يخلق عالمه الخاص، ومن هناك بدأت الرحلة.
رغم فقدانه البصر، التحق عمار بالتعليم منذ صغره، حتى تخرّج في كلية الآداب – قسم اللغة الإنجليزية بجامعة عين شمس، لكنه كان يعلم أن الحياة الحقيقية لا تُكتب في الشهادات، بل تُعزف في التجارب.
أتقن عمار عزف آلات عديدة: الأكورديون، العود، البيانو، الأركسترا، وتعلّم التأليف الموسيقي بجهدٍ ذاتي ومثابرة نادرة.
سافر إلى أوروبا وتتلمذ على أيدي أساتذة كبار، لكنه لم ينسَ أبدًا هويته الشرقية، وظل يحمل تراب مصر في أوتار قلبه.
في زمنٍ كانت فيه الموسيقى التصويرية مجرد خلفية لا تُؤخذ على محمل الجد، قرر عمار الشريعي أن يمنح النغم مكانته، لم يرضَ أن تكون الموسيقى زينةً للمشهد، بل أرادها أن تكون الراوي الحقيقي للقصة.
في مسلسل "رأفت الهجان"، لم تكن الموسيقى مجرد لحنٍ وطني، بل كانت صوت الوطن وهو يتنفس في الخفاء، وفي "الراية البيضا"، جسّدت موسيقاه الصراع الطبقي والانهيار القيمي، دون أن تنطق بكلمة.
أما في "بوابة الحلواني"، فقد كتب عمار الشريعي ملحمةً كاملة، سردًا موسيقيًا امتزج بصوت علي الحجار وكلمات سيد حجاب، فصنعوا معًا ثلاثية الوجدان المصري.
لم تكن ألحانه تُلحن فقط، بل كانت تُكتب كما تُكتب القصائد، تُبنى كما يُبنى البيت العتيق، وتُروى كما تُروى السيرة.
كان عمار يعرف جيدًا من يُرافقه في الدرب، وكان موقنًا أنه ما من عبقري يعمل وحده، ولهذا رافقه الشاعر سيد حجاب، صاحب الكلمة العامية التي تفيض حكمةً ووجعًا، فكان رفيقًا روحيًا له، أما صوت علي الحجار، فكان مرآة نغماته، يحملها إلى السماء.
تعاون مع أعلام الغناء المصري: وردة، نجاة، لطيفة، أنغام، مدحت صالح، وغيرهم، لكنه ظل دائمًا وفيًا للأغنية ذات القيمة، الغارقة في المعنى، البعيدة عن الاستسهال.
عمار لم يكن فنانًا صامتًا، بل كان مثقفًا من الطراز الأول، قارئًا، محللًا، ناقدًا، وعاشقًا للفن الحقيقي. من خلال برنامجه "غواص في بحر النغم"، علّم المصريين كيف يفهمون الموسيقى، كيف يميزون بين اللحن المُتقن والضجيج، كيف يستمعون، لا فقط يسمعون.
في كل حلقة، كان يغوص في تاريخ لحنٍ ما، أو سيرة فنان، ويُعيد تقديم الفن كعلم، كفكر، كفلسفة، لا كمجرد تسلية.
عمار لم يرَ الدنيا كما نراها، لكنه رأى ما لا نراه نحن المبصرون، لم يكن يرى الوجوه، لكنه رأى القلوب، لم يشهد الألوان، لكنه لمس النغمات، عاش حياته لا يشكو من الظلام، بل حوّله إلى نورٍ للآخرين.
وكان دائمًا يقول: "أنا مش كفيف، أنا شايف، بس بطريقتي".
في 7 ديسمبر 2012، رحل عمار الشريعي عن عالمنا، لكنه لم يرحل عن ذاكرتنا، بقي صوته، بقي لحنه، بقيت سطور موسيقاه تُكتب في أرواحنا كلما مرّت تترات المسلسلات، أو هبّت علينا نسائم الشجن.
لم يكن عمار مجرد موسيقار، بل كان رجلًا كتب حكايتنا بأنامل من نور، في زمنٍ لا يُضيء إلا بالمبدعين الحقيقيين.
في حياة كل شعب، يولد فنانٌ واحد يشبهه تمامًا، يُجسّد ألمه، حلمه، حارته، وطنه، وتاريخه، عمار الشريعي كان ذلك الفنان، الذي رأى مصر كما هي، وعزفها لنا كي نحبها كما يجب.