عاجل: اندلاع حريق في مصنع كيماويات بمركز بلبيس في الشرقية والدفع بسيارات إطفاء لإخماد النيران وفق صحف محلية.

حين يروي الفلسطينيّ وجعه.. مشروع الملهاة عند إبراهيم نصر الله

تقرير

المراية

منار تامر

5/4/20251 دقيقة قراءة

حين يُذكر الأدب الفلسطيني، يبرز اسم إبراهيم نصر الله كواحد من أعمدة السرد المعاصر، وكاتبٍ مزج في تجربته بين الشعر والرواية والتاريخ والهمّ الإنساني.

وُلدَ إبراهيم نصر الله عام 1954 في مخيم الوحدات للاجئين الفلسطينيين في عمّان – الأردن، لأبوين فلسطينيين هجّرا قسرًا من قرية البَرَة في قضاء القدس بعد نكبة 1948، تربى في أجواء المخيم، التي انطبع فيها الحنين، والفقر، والأمل، والمقاومة.

درس في مدارس وكالة الغوث، وتخرج من كلية تدريب عمّان، ثم عملَ في قطاع التعليم، قبل أن ينتقل للعمل الصحافي، ويكرّس لاحقًا حياته للكتابة.

نصر الله شاعر وروائي وناقد، أصدر أكثر من 15 ديوانًا شعريًا و20 رواية، تُرجمت أعماله إلى أكثر من 20 لغة، وحازَ على عدة جوائز عربية وعالمية، منها الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) عن رواية "حرب الكلب الثانية".

فحمل إبراهيم نصر الله منذ الطفولة همّ القضية في وجدانه، وتجلى ذلك في مشروعه الأدبي الكبير الذي عُرف بـ "الملهاة الفلسطينية".

"الملهاة الفلسطينية".. ليست مجرد سلسلة روائية، بل هي مشروع سردي ضخم يحاول فيه نصر الله أن يعيد رسم ملامح التاريخ الفلسطيني عبرَ منظور الإنسان العادي، لا الزعيم أو السياسي، تُحاكي هذه السلسلة الملهاة الإغريقية، ولكن بمفهوم فلسطيني خالص، حيثُ يتعانق الحزن والبطولة، والمأساة والأمل، عبر عصور مختلفة.

بعكس الطابع الكلاسيكي لمصطلح "المأساة"، فإن اختيار نصر الله لمصطلح "الملهاة" فيه بُعد فلسفي دقيق، فالحكاية الفلسطينية مليئة بالتراجيديا، لكن فيها أيضًا قدرًا من السخرية السوداء، والبطولة الفردية والجماعية، والتفاصيل اليومية التي تحوّل الألم إلى فعل حياة.

تتكون السلسلة من اثنتي عشرة رواية حتى اليوم، كل رواية تُعنى بجانب مختلف من التجربة الفلسطينية، وتحمل شخصيات واقعية أو خيالية تمثّل شريحة اجتماعية، مكانية أو زمانية من هذا التاريخ المركب، ولعلَّ من أبرز هذه الروايات:

زمن الخيول البيضاء.. رواية ضخمة، تعُد حجر الأساس في السلسلة، تغطي فصولًا من التاريخ الفلسطيني الريفي من العهد العثماني حتى النكبة عام 1948، من خلال قصة عائلة فلسطينية وعلاقتها بالأرض والسلطة والمقاومة، والرمز المركزي في هذه الرواية هو الخيل، الذي يرمز للكرامة والحرية والارتباط بالأرض.

قناديل ملك الجليل.. رواية تاريخية مُستندة على سيرة ظاهر العمر الزيداني، الحاكم الفلسطيني الذي تحدّى الدولة العثمانية في القرن الثامن عشر، تُظهر هذه الرواية ملامح فلسطين ككيان سياسي مستقل، قبل ضياعها في الخرائط الدولية.

طفل الممحاة.. تحكى هذه الرواية من وجهة نظر طفل فلسطيني يولد في المنفى، ويعيش في ظل الحصار والمخيم والنزوح، بلغة شاعرية مؤلمة ترصد نشأة الوعي وسط الدمار، وكيف أن الطفولة الفلسطينية ليست بريئة، بل "محاها" الاحتلال قبل أن تبدأ.

طيور الحذر.. أما هذه الرواية فتتناول فترة الانتفاضة الأولى من الداخل الفلسطيني، وتغوص في النفسية الفلسطينية التي تحاول التوفيق بين الخوف والمقاومة، وبين الحب في زمن البندقية.

في أعمال إبراهيم نصر الله تتجلّى فرادة فنية تستند إلى شاعرية اللغة وبراعة السرد، فهو شاعر قبل أن يكون روائيًا، ولغته تتميز بوهج شعري يمنح النصوص مسحة وجدانية عميقة، دون أن يفقدها بساطتها ووضوحها.

لا يعتمد في سرده على الأسلوب التقليدي، بل يُشيد رواياته عبر تعدد الأصوات وتقنيات التخييل والاسترجاع الزمني، ليخلق عوالم نابضة بالتوتر والرمز والأسطورة.

وهو إذ يوثق لفلسطين، لا يفعل ذلك كأرشيفي، بل كفنان يحول التاريخ إلى صورة شعرية مشبعة بالرمز والدلالة، دون أن يتخلى عن صدق التجربة أو حرارة الواقع.

أما "الملهاة الفلسطينية"، فهي ليست فقط مشروعًا روائيًا عن وطن، بل حكاية وجود ومقاومة تُكتب من ضمير الناس لا من لسان السلطة، فيها ينتقل الفلسطيني من الهامش إلى المركز، من صورة الضحية إلى صوت الإنسان الحيّ.

وهكذا، فإن مشروع "الملهاة الفلسطينية" لا يُقرأ كحكاية شعبٍ فقط، بل كمرآة لوجدانٍ إنسانيٍّ يواجه الطمس بالتذكّر، والهزيمة بالأمل، والمنفى بالكتابة.

في عالم يمضي سريعًا نحو النسيان، ينهض إبراهيم نصر الله كحارس للذاكرة، يلتقط من فتات الحكايات ما يُبقي الروح الفلسطينية مشتعلة بالحياة، لا بالنوستالجيا وحدها.

إنه لا يكتب عن فلسطين كما كانت فحسب، بل كما يجب أن تكون؛ حرة، نابضة، ومرئية في وجوه أهلها وأحلامهم.

بهذا المعنى، تصبح "الملهاة" شهادة جمالية وتاريخية، تُعيد للفلسطيني مكانته كفاعلٍ لا كمفعولٍ به، وتفتح أمام القارئ دروبًا للتأمل في المأساة، لا بوصفها نهاية، بل بوصفها إمكانًا للنهضة والخلود.