عاجل: اندلاع حريق في مصنع كيماويات بمركز بلبيس في الشرقية والدفع بسيارات إطفاء لإخماد النيران وفق صحف محلية.
إبراهيم المقادمة.. شهيد الوعي الذي صاغَ الجهاد بالفكر
تقرير
المراية
منار تامر
4/20/20251 دقيقة قراءة


في كل ثورة، هناك من يكتب نارها بالحبر، ويذكي لهيبها بالفكر، قبل أن يحمل السلاح. ومن هؤلاء الذين تجاوزوا فكرة المقاومة إلى صناعة مشروع تحرّري متكامل، يبرز اسم الدكتور إبراهيم المقادمة، الطبيب والمفكر والمجاهد الفلسطيني، الذي أعطى عمره للحرية، حتى صار شهيدها.
وُلد الدكتور إبراهيم ناجي المقادمة عام 1950 في مدينة بيت لاهيا شمال قطاع غزة، لعائلة فلسطينية هجّرتها النكبة من بلدة بيت دراس التي احتلتها العصابات الصهيونية عام 1948.
حملت عائلته ذاكرة الألم والشتات، فكان الابن شاهدًا منذ طفولته على آثار الاحتلال والطرد والحرمان، مما رسّخ فيه شعورًا مبكرًا بالظلم، وولّد في داخله سؤال الهوية والحق.
نشأ في ظل النكسة، وتفتّحت عيناه على واقع عربي مهزوم، لكنه لم يستسلم له.
منذ صغره كان شغوفًا بالعلم، متفوّقًا في دراسته، حادّ الذكاء، واسع الاطلاع، مما أهّله لاحقًا للحصول على منحة دراسية لدراسة الطب في جامعة القاهرة.
خلال دراسته الجامعية، انخرط في النشاط الطلابي الإسلامي، وهناك تعرّف على أفكار الإخوان المسلمين وتأثر بها بشدة.
تشكل وعيه في زمن كانت فيه الجماهير تبحث عن بديل حقيقي بعد سقوط الشعارات القومية، فوجد في الإسلام السياسي أفقًا جديدًا للمقاومة والتحرير.
كان المثقفون الثوريون في الجامعات المصرية آنذاك يشكّلون دوائر فكرية عميقة، وكان المقادمة ضمن هؤلاء الذين رأوا أن مقاومة الاحتلال تبدأ بتحرير العقل، حيث كتب، وناقش، وواجه، حتى أصبح من أبرز المثقفين الإسلاميين في الساحة الطلابية.
بعد عودته إلى غزة، مارس مهنة الطب وتخصص في جراحة العظام.
ولم يكن مجرد طبيب يعالج الأجساد، بل كان طبيبًا للفكر والروح، يُحاور الشباب، ويؤسس لحالة من الوعي الثوري المتجدّد.
في هذه المرحلة، بدأ يكتب بعمق، وراح يؤلّف في الفكر الإسلامي، خصوصًا في قضايا الجهاد والسياسة والعلاقات الدولية.
ومن أبرز كتبه:
"الصراع بين الإسلام والغرب"
"الموساد وأجهزة الاستخبارات"
"متطلبات المقاومة الإسلامية في فلسطين"
"إدارات التوحّش.. نقد وتحليل"
في أواخر الثمانينات، كان الدكتور المقادمة أحد مؤسسي حركة حماس، لكنه لم يكن من أولئك الذين يحبّون الظهور، اختار العمل خلف الكواليس، مهندسًا فكريًا، ومنظّرًا استراتيجيًا للحركة.
كان يؤمن أن المقاومة لا تُبنى فقط على الحماسة، بل على تخطيط علمي وثقافي شامل.
كان من أوائل من طرحوا مفهوم "الجهاد المستنير"، القائم على المعرفة والشرع والعقل.
قال في أحد خطاباته السرية:
"من يحمل البندقية دون أن يفهم لماذا يحملها، قد يوجّهها في الاتجاه الخاطئ. أما من يفهم، فهو جندي وقائد في آنٍ واحد."
في بداية التسعينيات، اعتقلته سلطات الاحتلال الإسرائيلي بتهمة الانتماء إلى حماس والتخطيط لعمليات مقاومة.
قضى في السجن أكثر من ست سنوات، تعرّض خلالها لتعذيب قاسٍ، كُسرت فيه أضلاعه، لكنه لم ينكسر.
بل على العكس، استثمر سنوات الاعتقال في التأليف والكتابة، فخرج من السجن أكثر نضجًا، وأشد التزامًا برسالته.
كتب نصوصًا فكرية توضح الفرق بين الجهاد المشروع والإرهاب، وردّ على محاولات شيطنة المقاومة الفلسطينية في الإعلام الغربي.
برز الدكتور إبراهيم المقادمة كأحد أعمدة العمل الفكري داخل حركة حماس، إذ لم يكتفِ بتأسيس البنية الأمنية والتنظيمية، بل عمل على صياغة المفهوم الجهادي المقاوم بشكل عميق.
ففي الزنزانة التي ضمّت الشيخ أحمد ياسين وتلميذه الدكتور إبراهيم المقادمة، لم تكن الأحاديث عابرة، بل كانت تمهيدًا لتحول فكري كبير، هدفه إعادة تشكيل الإنسان الفلسطيني من الداخل.
آمن المقادمة بأن أي تحرير لا يمر عبر الوعي هو مشروع ناقص، فصاغ خطابًا فكريًا ومقاومًا متكاملاً، بدأ من الإيمان، ومرّ بالتربية، وانتهى بالجهاد.
لم تكن مقاومته بندقية فحسب، بل كانت رؤية شاملة ترفض الاتكالية، وتكسر وهم "الشرعية الدولية"، وتستنكر التعويل على الغرب أو أنظمة المنطقة، واضعًا الإسلام كمرجعية حصرية للتحرير.
كتب أبحاثه في السجن بأسماء مستعارة، مثل: "محاكمة يحيى عياش"، و"الصراع السكاني"، كما ألّف كتابه الأهم:
"معالم في الطريق إلى تحرير فلسطين"
الذي شكّل مرجعًا استراتيجيًا للحركة في فهم الصراع والتخطيط لمراحله.
ومع كل عملية مقاومة، ومع كل انتفاضة، كانت بصماته حاضرة، حتى جاءت عملية "طوفان الأقصى" شاهدة على أن الفكر لا يُغتال، بل يُورَّث ويُترجم واقعًا.
في 8 مارس 2003، وبينما كان المقادمة في طريقه إلى عمله، استهدفته طائرات الاحتلال الإسرائيلي بصاروخ مباشر، فاستشهد مع ثلاثة من مرافقيه.
لم يكن مطلوبًا عسكريًا في ذلك الوقت، بل كان يشكّل خطرًا بفكره، بكلماته، وبحضوره الملهم.
جاء اغتياله رسالة واضحة:
أن الفكر المقاوم يُرعبهم أكثر من فوهة البندقية.
ترك الدكتور إبراهيم المقادمة إرثًا عظيمًا، ليس فقط في العمل المقاوم، بل في بناء جيلٍ يؤمن بأن التغيير يبدأ من الفكرة.
فكان يقول:
"نحن لا نقاتل لأننا نحب الحرب، بل لأننا نحب الحياة بكرامة، ونرفض أن نموت عبيدًا."
وبعد استشهاده، سُمّيت العديد من المساجد والمؤسسات باسمه، وأُعيد طبع مؤلفاته، وتحول إلى رمز ثقافي يُدرّس فكره في الأوساط الشبابية والمقاومة.
كان الدكتور إبراهيم المقادمة أكثر من مجرد شهيد، كان مشروعًا متكاملًا من النضج والوعي والمقاومة، رجلًا لا يُشبه غيره، جمع بين العلم والدم، بين الخطابة والسلاح، بين الفكرة والواقع.
لم يمت المقادمة حين انفجر الصاروخ، بل وُلد في قلوب آلاف الشباب الذين قرأوا فكره، وساروا على دربه.