عاجل: اندلاع حريق في مصنع كيماويات بمركز بلبيس في الشرقية والدفع بسيارات إطفاء لإخماد النيران وفق صحف محلية.
خامنئي.. الفقيه الذي صاغ مصير أُمة
تقرير
وجه آخر
منار تامر
4/15/20251 دقيقة قراءة


في أحد الأزقة الضيقة لمدينة مشهد الإيرانية، حيثُ الطين يختلط برائحة الورق والعبق الروحي، وُلد علي الحسيني خامنئي في 19 أبريل من عام 1939، في بيت متواضع، لم يعرف البذخ، ولا زينة الدنيا.
نشأ الطفل النحيل بين دفتي كتاب وبين همسات الدعاء في صلوات والده، السيد جواد خامنئي، الذي كان فقيهًا صارمًا زاهدًا، يرى في الدنيا امتحانًا لا راحة فيه، وفي العلم الديني طريقًا للنجاة.
بدايات من نار التقوى وجليد الحرمان
منذ نعومة أظفاره، وجد خامنئي نفسه محاطًا بجدران خشبية تنضح فقرًا، لكنها تتسع للفكر والخيال.
درس في الحوزات العلمية، وراح يتنقل بين مشهد وقم والنجف، ينقب في كتب الفقه والأصول، ويتتلمذ على كبار العلماء.
لم يكن العلم وحده من يصوغ وعيه، بل كذلك حرارة الخطب الثورية التي كانت تتسلل إلى قلبه عبر دروس شريعتي ومطهري.
كان يرى في الصمت خيانة، وفي الثورة فرض عين.
الطريق إلى الثورة: بين القيود والمنابر
مع صعود نظام الشاه محمد رضا بهلوي، أصبح المجال العام جدارًا حديديًا، لا مكان فيه إلا للولاء.
لكن خامنئي، الشاب ذو النظرة الهادئة والصوت العميق، قرر أن يصدح بالحقيقة.
كانت خُطبه في المساجد نارًا تحت الرماد.
أُلقي القبض عليه مرارًا، نُفي، وراقبته الأجهزة الأمنية عن كثب، لكن كل محاولة لإسكاته كانت كمن يحاول كتم ريح عاصفة.
في قلب تلك السنوات السوداء، تبلور المشروع الثوري.
كان خامنئي من أوائل رجال الدين الذين ترجموا أفكار الثورة إلى فعل، وبنى شبكة من الخطباء والدعاة الذين مهّدوا لانفجار 1979، الثورة الإسلامية الكبرى، التي قلبت إيران رأسًا على عقب.
اليد اليمنى للخميني: من الظل إلى دائرة الضوء
مع عودة الإمام الخميني إلى طهران، برز خامنئي كمستشار مقرّب، ثم كصوت ناطق باسم الثورة.
تسلّم مناصب أمنية وسياسية، وشارك في تأسيس الحرس الثوري، وهي المؤسسة التي ستصبح لاحقًا العمود الفقري لنظام الجمهورية الإسلامية.
في 1981، وبعد اغتيال محمد علي رجائي، عُيّن رئيسًا للجمهورية، في قلب حرب دموية مع العراق.
وعلى مدار ثماني سنوات، قاد خامنئي الدولة الإيرانية من خلف خطوط النار، بينما كانت مدنها تتساقط تحت القصف، واقتصادها يئن تحت وطأة الحصار.
1989: اللحظة المفصلية… حين حمل العباءة الثقيلة
برحيل الخميني عام 1989، واجهت إيران لحظة مصيرية.
لم يكن خامنئي آنذاك مرجعًا دينيًا بالمقام التقليدي، ولم يحمل رتبة "آية الله العظمى" التي تتطلبها المرجعية الدينية العليا، لكن مجلس الخبراء اختاره خلفًا للخميني، في قرار بدا للوهلة الأولى اضطراريًا، لكن التاريخ أثبت عكس ذلك.
منذ توليه منصب "المرشد الأعلى"، أعاد خامنئي تشكيل بنية السلطة.
منح الحرس الثوري نفوذًا غير مسبوق، وأحكم سيطرته على القضاء، والإعلام، ومجلس صيانة الدستور، وحتى الانتخابات.
بنى دولة داخل الدولة، أشبه بشبكة عنكبوتية تتقاطع فيها السلطة الدينية بالأمن القومي والاقتصاد.
صوت لا يرتجف في العواصف
رغم التغيرات السياسية الكبرى، من غزو العراق، إلى ربيع عربي عاصف، إلى الاتفاق النووي والانسحاب الأميركي منه، ظل خامنئي ثابتًا كصخرة في مجرى نهر.
يخرج بخطاباته المتأنية، يصوغ السياسة بلغة رمزية مشبعة بالإشارات القرآنية والتاريخ الإسلامي.
يقدّم نفسه كحارس للهوية الإيرانية الإسلامية في وجه التغريب والهيمنة الغربية.
أعماله ومؤلفاته.. فكر لا ينام
خامنئي لم يكن رجل سياسة فقط، بل أيضًا مفكرًا وكاتبًا، له العديد من الكتب والخطب التي تُدرّس في المؤسسات الدينية.
من بينها: "الاجتهاد والتقليد"، "الحرية في الفهم الإسلامي"، "العلاقة بين الدين والدولة".
كما أشرف على مشروع "النهضة الإسلامية"، الهادف إلى بناء تيار فكري مناهض للغرب، مستلهم من الفكر الشيعي.
نظامه.. الجمهورية في ثوب الولي الفقيه
في عهده، تحولت الجمهورية إلى منظومة تقودها نظرية "الولي الفقيه"، التي تمنح المرشد سلطة مطلقة فوق كل السلطات.
في ظل هذا النظام، لا يمكن لأي قرار مصيري أن يُتخذ دون مباركته.
هو القاضي الأعلى، والقائد الأعلى للقوات المسلحة، والمرجعية السياسية الأولى في الدولة.
الزعيم كظل الإله.. حين تُحصَّن السلطة بالدين
في النظام الإيراني الذي يتصدره علي خامنئي، تتداخل السياسة بالدين بشكل غير مسبوق، حيث لا يُنظر إلى الزعيم كقائد سياسي فحسب، بل كـ"ولي فقيه" يُمثل السلطة الشرعية والدينية في آنٍ معًا.
هذا الموقع الفريد يجعل منه ليس مجرد صاحب قرار، بل مرجعًا يُفترض أنه يجسّد الإرادة الإلهية على الأرض.
ومنذُ تأسيس الجمهورية الإسلامية، تم بناء نموذج سلطوي يُقدّس الزعيم ويمنحه مكانة تتجاوز المساءلة والمراجعة، حتى باتت معارضته تُصوَّر كخروج عن الدين، لا مجرد اختلاف سياسي.
هذه القداسة الممنوحة له تفرز نمطًا من الطاعة المطلقة، لا تستند إلى قناعات عقلية أو برامج سياسية، بل إلى إيمان عميق بأن "القائد يرى ما لا نرى"، وأن توجيهاته تمثل حقائق يقينية لا تُناقش.
خُطبه التي يُلقيها، رغم طابعها السياسي، تأتي مغلفة بلغة دينية رمزية تبدأ بالآيات القرآنية وتنتهي بالإشارات التاريخية، مما يمنحها ذلك طابعًا شبه مقدّس، ويحوّل كل نقد له إلى طعن في الدين والهوية والأمة.
في هذا السياق، تصبح السلطة السياسية محصّنة ضد النقد، مغطاة بشرعية دينية يصعب المساس بها دون الوقوع في خانة "العدو".
خامنئي اليوم.. زعيم بثقل الزمان
واليوم، وهو يقترب من عقده التاسع، لا يزال خامنئي حاضرًا بقوة.
جسده قد يكون أنهكه الزمن، لكن صوته في خطب الجمعة ما زال يحمل ثقل زعيم لا يعترف بالهزيمة.
وهو يعلم جيدًا أن من يضع يده على التاريخ، لا يمكنه أن يتراجع.
علي خامنئي ليس مجرد رجل دين وصل إلى السلطة، بل سردية معقدة تتقاطع فيها الروحانية بالسياسة، والتاريخ بالمقدّس.
هو نتاج قرنٍ مضطرب، تجسدت فيه آمال الشرق وآلامه.
رمزٌ يراه البعض أيقونة مقاومة، ويراه آخرون تجسيدًا للسلطة المطلقة.
لكنه، في كل الأحوال، رجلٌ غيّر وجه إيران، وكتب اسمه بأحرف لا يمحوها الزمن.