عاجل: اندلاع حريق في مصنع كيماويات بمركز بلبيس في الشرقية والدفع بسيارات إطفاء لإخماد النيران وفق صحف محلية.

محمد عبده.. من دار الأيتام إلى قمة الغناء العربي

تقرير

المراية

منى حامد

6/21/20251 دقيقة قراءة

في زمن تتغير فيه الأذواق بسرعة، وتظهر فيه أصوات وتختفي أخرى، يبقى اسم محمد عبده حاضرًا كصوت لا يشيخ، وحالة فنية نادرة يصعب تكرارها؛ إنه أكثر من مجرد مغنٍ، بل ذاكرة وطن، ورمز خليجي، وأب للفن السعودي الذي تجاوز حدوده ليصل إلى آذان العالم العربي بأسره.

جدد محمد عبده حضوره الفني موسم عيد الأضحى 2025 بمشاركته في واحدة من أبرز حفلات "عيد الرياض"، التي نظمتها الهيئة العامة للترفيه، ووقف فنان العرب على المسرح في ليلة طربية استثنائية، حضرها جمهور من مختلف الأعمار، وقدم خلالها باقة من أشهر أغانيه مثل "الأماكن" و"مذهلة"، وسط تفاعل كبير من الحضور.

لم يكن هذا الظهور مجرد مشاركة فنية، بل لقاء وجداني متجدد بينه وبين جمهوره، يؤكد به مكانته كصوت يحتفل به الجميع في كل زمان ومكان.

من البحر إلى الطرب: بدايات محمد عبده

ولد محمد عبده عام 1949 في محافظة الدرب بمنطقة جازان، جنوب المملكة العربية السعودية، وفقد والده، الذي كان يعمل بحارًا، في سن مبكرة، لتبدأ رحلة مليئة بالتحديات، انتقل خلالها مع والدته وأشقائه إلى مكة المكرمة، حيث التحق بدار الأيتام التابعة للرعاية الاجتماعية. وهناك، وفي ظروف قاسية، وُلد حلمه الفني الكبير.

وفي المكان الذي كاد أن يطفئ أحلام الكثيرين، بدأ محمد عبده يخط أولى خطواته نحو مستقبل مختلف، كان يحلم بأن يصبح بحارًا مثل والده، فالتحق بمعهد الصناعات البحرية بجدة ودرس الملاحة؛ لكن البحر لم يفارقه أبدًا، بل ظل جزءًا من وجدانه، وظهر تأثيره واضحًا في إحساسه الهادئ وصبره وصوته العميق. لطالما وصف البحر بأنه مصدر إلهام وراحة داخلية.

دخل عالم الفن بهدوء وتدرج، دون أن يسلك طرق الشهرة السريعة. أول ظهور له كان في أوائل الستينيات من خلال أغنية "خلاص سافر"، التي قدمها عبر الإذاعة السعودية، ومنذ البداية، حرص على انتقاء كلماته وألحانه بدقة، مؤمنًا بأن الفن الحقيقي يبدأ من احترام الفنان لنفسه ولجمهوره.

تعاون محمد عبده مع كبار الشعراء والملحنين، مثل الأمير بدر بن عبد المحسن، والأمير خالد الفيصل، وغيرهم، ليصنع لنفسه هوية موسيقية ترتكز على الكلمة الراقية واللحن الأصيل، لم يكن مجرد صوت جميل، بل مشروع فني متكامل، يزاوج بين الأصالة والتجديد.

فنان العرب... صوت لا يشيخ

ورغم مرور أكثر من خمسين عامًا على بدايته، لا يزال محمد عبده يحتفظ بذات الإحساس ونفس الحضور، صوته نضج دون أن يتغير، وأغانيه القديمة ما زالت تُغنى وتُطلب في الحفلات، وترددها أجيال لم تكن قد وُلدت عند صدورها.

أعمال مثل "الأماكن"، و"بنت النور"، و"صوتك يناديني"، و"مذهلة" لم تكن مجرد نجاحات جماهيرية، بل تحولت إلى جزء من الوجدان العربي.

ما يميز حفلاته هو بساطتها وعمقها؛ فصوته وحده يكفي لملء المكان إحساسًا، يقف على المسرح بثقة وهدوء، لا يصرخ ولا يستعرض، بل يغني بثبات، وكأن بينه وبين الجمهور حوارًا صامتًا يتكرر كل مرة. جمهوره يصغي له باحترام، وهو يرد التحية بأداء راقٍ مليء بالوقار.

يشتهر محمد عبده بدقته الشديدة في العمل، وصرامته في اختياراته الفنية، ويرفض تقديم الأغاني السطحية أو السريعة، ويؤمن بأن الفنان يحمل مسؤولية ثقافية وجمالية، وعليه أن يرتقي بذوق الجمهور لا أن ينجرف معه، لهذا السبب، يختار أعماله بعناية، ويعود بين الحين والآخر بأغنية تترك أثرًا لا يُنسى.

رسالة الفن وحياة بعيدة عن الأضواء

ورغم شهرته الكبيرة، يفضل الابتعاد عن الأضواء الزائدة. نادرًا ما يظهر في البرامج التلفزيونية، ولا يكثر من التفاعل على وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أنه في الوقت نفسه قريب من الناس، ويعبّر دائمًا عن امتنانه لجمهوره ووفائهم.

أما في حياته الخاصة، فهو شخص عائلي من الدرجة الأولى، وأنجب 11 ابنًا وابنة من زوجتين، وتزوج أول مرة عام 1977 من سعودية وأنجب منها سبعة أبناء، ثم تزوج في 2013 من فرنسية من أصول جزائرية وأنجب منها أربعة، وبرغم فقدانه لابنه الأكبر عبد الرحمن، يحرص على خصوصية حياته العائلية، ويمنحها كثيرًا من وقته بعيدًا عن عدسات الإعلام.

لقب "فنان العرب" لم يكن من اختياره، بل أطلقته عليه الجماهير العربية بعد أن وصل بفنه إلى كل بيت، وكان أول فنان خليجي يقف على مسرح دار الأوبرا المصرية، كما غنّى في عواصم عالمية مثل باريس، ولندن، ودمشق، وتونس، ومسقط.

يرى محمد عبده أن الفن رسالة ومسؤولية لا تقتصر على الترفيه، يرفض اللهاث وراء "الترندات"، وكأن لسان حاله يقول: "لا أبحث عن جمهور اليوم فقط، بل عن جمهور الغد أيضًا"، ولهذا السبب، يعتذر عن كثير من المشاركات التي لا تليق بتاريخه أو قناعته الفنية.

محمد عبده لا يشبه أحدًا، وربما لهذا نحبه، صوته يشبه الحنين، وحضوره يشبه صوت الأب أو الأخ الأكبر؛ لا يبالغ، لا يستعرض، بل يغني من القلب، وكأن كل نغمة تحكي قصة، وفي كل مرة نسمعه، نشعر أننا نعود إلى مكان آمن، إلى لحن قديم لا يُمل، وكلمة صادقة وسط ضجيج لا يتوقف.

هو الفنان الذي غنّى من قلب البحر، وسار بثبات في طريقه دون أن يلتفت، ورغم مرور السنوات، لا يزال صوته حيًا، قويًا، ومحبوبًا. محمد عبده ليس فقط "فنان العرب"، بل ذاكرة من الطرب، لا تزال تُكتب حتى الآن.