عاجل: اندلاع حريق في مصنع كيماويات بمركز بلبيس في الشرقية والدفع بسيارات إطفاء لإخماد النيران وفق صحف محلية.

من غزة إلى بوليتزر.. مصعب أبو توهة وقوة الكلمة

تقرير

المراية

منار تامر

5/9/20251 دقيقة قراءة

في مدينةٍ ينهض صباحها على صوت القصف، وينام ليلها على صدى الطائرات، وُلد مصعب أبو توهة؛ الشاعر الفلسطيني الذي جعل من الحرف مأوى، ومن اللغة درعًا، ومن الشعر خندقًا صغيرًا في معركة كبرى من أجل البقاء والكرامة.

لم يكن ميلاده في غزة مجرّد حدث بيولوجي، بل هو ولادة في قلب الجُرح، في قلب القضية، في قلب الحقيقة.

وُلد مصعب أبو توهة عام 1992 في قطاع غزة، وعاش حياةً مشبعة بالحصار والفقر والحرمان، لكنه لم يستسلم لهذا القدر.

نشأ في مخيم الشاطئ، بين الأزقّة الضيّقة والأحلام العريضة، وتعلّق منذ صغره بالكتب وباللغة الإنجليزية، التي أصبحت لاحقًا معبره إلى العالم.

حصل على شهادة البكالوريوس في الأدب الإنجليزي من الجامعة الإسلامية في غزة، وفي عام 2019 نال منحة "فولبرايت" للدراسة في الولايات المتحدة، حيث أكمل دراسات عليا في الأدب الأمريكي والكتابة الإبداعية بجامعة هارفارد.

تلك التجربة لم تفصله عن وطنه، بل عمّقت علاقته به، وصقلت صوته الشعري باللغة الإنجليزية دون أن تفقده روحه الفلسطينية.

مصعب ليس مجرد شاعر يكتب من المنفى أو الغربة، بل هو شاعر يكتب من "الداخل"، من قلب فلسطين، من داخل الحصار.

قصائده لا تُراهن على الرومانسية، بل على الحقيقة؛ لا تبحث عن جمال مُصطنع، بل تستخرج الشعر من تحت الأنقاض، من تفاصيل الحياة اليومية، من الخبز، والخوف، والضحك المتقطع.

في عام 2022، أصدر ديوانه الأول باللغة الإنجليزية بعنوان:

"Things You May Find Hidden in My Ear: Poems from Gaza"

(أشياء قد تجدها مخبأة في أذني: قصائد من غزة)

وقد لاقى هذا العمل ترحيبًا واسعًا في الأوساط الأدبية الغربية، ووصل إلى القائمة النهائية لجائزة بوليتزر عن فئة الشعر عام 2023، كما حاز جائزة "والت ويتمان"، وهي من أبرز الجوائز الشعرية في الولايات المتحدة.

الديوان ليس مجرد شهادة حية على معاناة غزة، بل هو وثيقة إنسانية مكتوبة بلغة ناعمة وعميقة، توصل الوجع الفلسطيني إلى القارئ الأجنبي دون أن تفقد صدقها أو تتحوّل إلى مجرّد استعطاف.

يمزج أبو توهة في قصائده بين مشاهد

القصف وأحلام الطفولة، بين تفاصيل الحياة الصغيرة والتاريخ الكبير، بين ما يراه يوميًا وما يتخيّله كحق.

مصعب أبو توهة ليس شاعرًا نخبويًا منعزلًا في برج من الكلمات، بل هو مثقّف ملتزم، يرى في الثقافة أداة مقاومة.

أسّس في غزة مكتبة "إدوارد سعيد العامة" في ظلّ الحصار، ليمنح أبناء شعبه نافذة على المعرفة والعالم ، جاءت مبادرته من إيمانه العميق بأن الثقافة ليست ترفًا، بل ضرورة للبقاء، وحقًا من حقوق الإنسان الفلسطيني.

كما كتب مقالات رأي ومداخلات أدبية في عدد من الصحف العالمية المرموقة مثل The New York Times وThe New Yorker، مقدّمًا وجهة نظر فلسطينية بلغة الآخر، دون أن يتنازل عن هويته أو صدقه.

في أواخر عام 2023، وبينما كان عائدًا من الولايات المتحدة لزيارة عائلته، تم اعتقاله من قبل الاحتلال الإسرائيلي عند حاجز إيرز، واحتُجز لأيام دون تهمة واضحة.

لم يكن هذا الحدث عرضيًا؛ بل كان تأكيدًا على أن الكلمة الصادقة، حين تخرج من شاعر فلسطيني حرّ، تصبح خطرًا على الرواية المزوّرة، وعلى احتلال يخشى الحقيقة أكثر مما يخشى المقاومة المسلحة.

شارك في العديد من الفعاليات الأدبية الدولية، وأصبح وجهًا فلسطينيًا حاضرًا في أهم المنابر الثقافية، صوتًا لا يتحدث فقط باسم نفسه، بل باسم جيلٍ كامل يبحث عن العدالة والمعنى والحرية.

وفي عام 2024، جاءت اللحظة المفصلية: فاز مصعب أبو توهة بجائزة بوليتزر للشعر عن ديوانه Things You May Find Hidden in My Ear.

لم يكن الفوز مجرّد تكريم أدبي، بل كان اعترافًا عالميًا بنداء الشعر الفلسطيني، الذي لطالما تم تجاهله أو إسقاطه من دائرة الضوء.

فوز أبو توهة كان رسالة مزدوجة: للعالم، بأن فلسطين ليست فقط خبرًا على الهامش، بل قلبٌ نابض بالإبداع والكرامة؛ وللفلسطينيين، بأن أصواتهم حين تخرج من وجعهم الحقيقي، قادرة على الوصول وكسر الجدران، مهما بلغ سُمكها.

هكذا، لا يصبح أبو توهة مجرد شاعر لفلسطين، بل شاعرًا عنها وإليها، من قلب العالم، حاملًا ذاكرة وطنه في كل قصيدة، ومُعيدًا الاعتبار للقضية عبر كلمة نقية، وجمالية دامعة، وصدق لا يلين.

مصعب أبو توهة هو شاعر لم يصنعه الإعلام، بل صنعته التجربة، والألم، والمعرفة ،هو ابن غزة، وابن اللغة، وابن الكفاح.

في عالمٍ يتكاثر فيه الضجيج وتُختطف فيه الروايات، يبقى صوته الشعري علامة فارقة، تكتب فلسطين بلغات العالم، وتُعلّمنا أن القصيدة، في زمن القمع، قد تكون أقوى من الرصاصة، وأكثر بقاءً من الدبابة