عاجل: اندلاع حريق في مصنع كيماويات بمركز بلبيس في الشرقية والدفع بسيارات إطفاء لإخماد النيران وفق صحف محلية.

نجيب الريحاني.. الضاحك الباكي الذي رسم مصر

تقرير

المراية

ميادة عيسى

6/8/20251 دقيقة قراءة

في ذكرى وفاة نجيب الريحاني الـ76 (8 يونيو 1949)، نستعيد إرث فنان استثنائي لم يكن مجرد ممثل كوميدي، بل مرآة للمجتمع المصري. الريحاني، الملقب بـ"الضاحك الباكي"، ترجم هموم الناس وأحلامهم إلى فنٍّ يعيش رغم الزمن. من خلال مواقفه الإنسانية، وأعماله المتنوعة، ونقده الذكي للواقع، بنى علاقة فريدة مع الجمهور.

قلب إنساني

نشأ نجيب الريحاني في حي باب الشعرية الشعبي، مما جعله قريبًا من نبض الناس. كان يتجول في الأسواق، يستمع إلى قصصهم، ويستلهم منها شخصياته. يروي صديقه "بديع خيري" أنه رآه في المترو يساعد امرأة عجوزًا على حمل أغراضها، قائلاً: "الفن من غير قلب ما ينفعش."

في أحد العروض، توقف عن التمثيل ليتأكد من سلامة مشاهد أُغمي عليه من الضحك، مؤكدًا: "الضحكة من غير أمان ما تسواش."

كان يوزع تذاكر مجانية للفقراء، قائلاً: "الفن للكل، مش بس للي معاهم فلوس."

هذه المواقف جعلت الجمهور يراه واحدًا منهم، يشاركهم آلامهم وأفراحهم، وتعكس التزامه بأن يكون صوت الشعب.

مغامرة الفن

بدأ نجيب الريحاني حياته موظفًا بسيطًا في شركة السكر بنجع حمادي، لكنه شعر بالاختناق من روتين الوظيفة. في لحظة جريئة، قرر ترك عمله ليغامر بعالم الفن، متحديًا التوقعات الاجتماعية. في مذكراته، كتب: "سيبت الوظيفة… وكسبت نفسي."

هذا التحول لم يكن مجرد تغيير مهني، بل كان ولادة فنان قرر أن يعبر عن الشعب بضحكته. خطوته الأولى نحو المسرح كانت بداية رحلة جعلته صوت المصريين، حاملاً همومهم وأحلامهم إلى خشبة المسرح وشاشة السينما.

مسرح ساخر

على خشبة المسرح، تألق الريحاني من خلال فرقته الكوميدية مع "بديع خيري"، مقدمًا أعمالاً عكست تناقضات المجتمع. في مسرحية "ريّا وسكينة"، تناول قصة حقيقية بأسلوب ساخر، مبرزًا الفقر والظروف التي تدفع إلى الجريمة.

كان يقول: "الضحكة الحلوة هي اللي توجع القلب وتفكّره."

أسلوبه جمع بين الفكاهة والنقد، مقدمًا شخصيات شعبية تواجه الظلم بذكاء. المسرح بالنسبة له كان منصة لإيقاظ الضمير، حيث جعل الجمهور يضحك ويتأمل في قضايا المجتمع.

لكن الريحاني لم يكتفِ بالمسرح، بل ذهب بالكوميديا إلى شاشة السينما، حيث أوصل صوته إلى ملايين المصريين.

سينما شعبية

في السينما، قدَّم الريحاني أفلامًا تركت أثرًا عميقًا. في "أبو حلموس" (1947)، جسَّد رجلاً بسيطًا يواجه الفوضى الإدارية، ساخرًا من البيروقراطية التي تُعيق حياة المواطن. كان يؤمن أن "الفيلم اللي ما يخلّيش الناس تفكر، يبقى ناقصه حاجة."

الفيلم عكس معاناة الشعب بأسلوب كوميدي جعل الجمهور يتفاعل. أفلامه لم تكن ترفيهًا فقط، بل نافذة على الواقع، مقدمة بلغة يفهمها الجميع، مما جعلها قريبة من قلب المشاهد. ومن السينما، انتقل الريحاني إلى نقد أعمق للمجتمع.

نقد اجتماعي

في "لعبة الست" (1946)، تناول الريحاني العلاقات الأسرية بطريقة كوميدية، مركزًا على تغيُّر الأدوار بين الرجل والمرأة.

الفيلم سخر من التقاليد القديمة التي تحدّ من الحرية، مقدمًا نقدًا اجتماعيًا بروح خفيفة. كان يقول: "لو عايز تنقد، اضحك الأول، عشان الناس تسمعك."

أسلوبه جعل الجمهور يفكر في قضايا مثل المساواة دون شعور بالوعظ.

هذا النقد الذكي مهد الطريق لأعماله التي عززت الوحدة الوطنية.

وحدة وطنية

في مسرحية "البرنسيسة"، قدَّم الريحاني صورة للصراع بين الطبقات، مع سخرية من الأرستقراطية التي تحتقر البسطاء.

العمل أبرز قيمة التعايش في مصر متعددة الثقافات، مؤكدًا على الوحدة. كان يرى أن "الفن زي القهوة، لازم يجمع الناس."

شخصياته عززت فكرة أن الإنسانية تجمع الجميع، مما جعل أعماله رسالة للوحدة في زمن التحديات.

هذا النهج تجلَّى أيضًا في أعمال سينمائية لاحقة عكست الواقع بعمق.

ثلاثية التعايش

قدَّم نجيب الريحاني في "حسن ومرقص وكوهين" لوحة كوميدية تعكس مصر المتعددة الثقافات. المسرحية، بالتعاون مع بديع خيري، تروي قصة ثلاثة شركاء؛ مسلم، ومسيحي، ويهودي، يواجهون الحياة بصداقة.

الريحاني سخر من التعصب والفوارق الاجتماعية، مؤكدًا الوحدة الوطنية. قال: "الضحكة تجمعنا، والقلب يفهمنا."

العمل لم يكن تسلية فقط، بل رسالة تعايش جعلت الجمهور يضحك ويتأمل. يُروى أن الجمهور صفق بحرارة، متأثرًا بقدرة الريحاني على تحويل الواقع إلى فن يوحّد الناس، مؤكدًا مكانته كصوت الشعب.

واقع معبِّر

في "غزل البنات" (1949)، قدَّم الريحاني تحفة كآخر أعماله، حيث جسَّد المعلم حمام، الرجل البسيط الذي يحلم بالحب والكرامة.

عُرض الفيلم بعد وفاته بشهرين، مع تعديل نهايته، مما جعل الجمهور، بما فيهم ليلى مراد، يبكون لتقاطع الواقع مع النهاية المفاجئة.

كان يقول: "أنا مش كافر… بس الجوع كافر"، معبِّرًا عن فلسفته التي ترى الفقر محرِّكًا للصراعات.

الفيلم عكس الفوارق الطبقية والطمع، لكنه قدَّم الأمل بأسلوب إنساني.

تحدي الرقابة

نجيب الريحاني، بفنه الساخر، اصطدم بالرقابة مرات عديدة بسبب نقده اللاذع للفساد والفوارق الاجتماعية.

في مسرحية "الليالي الملاح"، سخر من المسؤولين الفاسدين الذين يستغلون الفقراء، مما أثار غضب السلطات البريطانية في عشرينيات القرن العشرين، فطالبوا بتعديل بعض المشاهد.

لكنه رد بخفة ظله المعهودة: "أنا مش ضد الحكومة… بس الحكومة أحيانًا ضد الضحك."

في فيلم "ابن الشعب" (1942)، تناول استغلال السلطة في الأحياء الفقيرة، فواجه ضغوطًا لتخفيف النقد، لكنه أصر على إيصال رسالته.

يُروى أن الرقابة هدَّدت بحظر إحدى عروضه، فأضاف تعليقًا عفويًا أثناء العرض: "لو منعوا الضحك، هنضحك في الشارع!"

هذا التحدي جعله بطل الشعب، يواجه القيود ليعبِّر عن همومهم. شجاعته أكدت أن فنه لم يكن تسلية فقط، بل سلاحًا لكشف الحقيقة بابتسامة.

حياة خاصة

وراء الكواليس، كان الريحاني مثقفًا ومتأملاً. حرص على تعليم نفسه اللغات والعلوم، وفي مشهد يعكس تصالحه الإنساني والديني، احتفظ في غرفته بمصحف وصورة قديسة.

قبل وفاته بأيام، كتب تأبينًا لنفسه قال فيه: "مات نجيب… مات الرجل الذي اشتكى منه طوب الأرض"، في هجاء ذاتي يعكس وعيه بقرب رحيله.

هذه التفاصيل تُظهر عمق شخصيته وإحساسه بالمسؤولية تجاه فنه وحياته.

إرث خالد

نجيب الريحاني، "أب الكوميديا المصرية"، أثَّر على فنانين مثل فؤاد المهندس وإسماعيل ياسين، وساهم في رفع مكانة الفنان في المجتمع.

حتى شريكه الأقرب، بديع خيري، اعتبره فخرًا شخصيًا وقوميًا، قائلاً: "أوصم بينا نجيب الريحاني الممثل، وأصبح هذا الفخر."

في 2016، كرَّمته Google Doodle، مؤكدة تأثيره العالمي.

أعماله، من "ريّا وسكينة" إلى "غزل البنات"، كانت مرآة للمجتمع، تعكس قضاياه بنقد ذكي وكوميديا إنسانية.

نجيب الريحاني لم يكن نجم زمنه فقط، بل مرآة لروح مصر كما هي: ضاحكة رغم الألم، ساخرة رغم الوجع، وأصيلة رغم التغيُّر. فلنُعد اكتشافه، ليس لنضحك، بل لنفهم أنفسنا أكثر.