عاجل: اندلاع حريق في مصنع كيماويات بمركز بلبيس في الشرقية والدفع بسيارات إطفاء لإخماد النيران وفق صحف محلية.
رمسيس ويصا واصف.. حين يولد الفن من الأرض
المراية
منار تامر
4/27/2025


رمسيس ويصا واصف.. نقشٌ لا يبهت على جدار الزمن
في زوايا الذاكرة الثقافية لمصر، يلمع اسم رمسيس ويصا واصف كالنقش المحفور على جدار الزمن، لا تبهت ملامحه ولا يخبو أثره.
لم يكن واصف مجرد مهندس معماري يرسم الخطوط على الورق، بل كان شاعرًا يكتب بالحجر والطين، ويعزف على أوتار الجمال بلغة الصمت والعمل اليدوي.
وُلدَ رمسيس عام 1911 في كنف عائلة تعشق الفكر وتجلّ الفن، فشبّ على حب التراث، وتفتحت عيناه على جمال العمارة القبطية والإسلامية، وألوان النيل وأصوات الحقول.
من باريس إلى الحرّانية.. رحلة البحث عن الجمال الأصيل
شدَّ الرحال إلى فرنسا ليتعلم العمارة في مدرسة الفنون الجميلة في باريس، وهناك التقى بأفكار جون روسكين وويليام موريس، فتشبّع برؤية تحتفي بالعمل اليدوي وترى في الفن خلاص الإنسان.
عندما عاد إلى مصر، لم يبحث عن مجدٍ في العمائر الشاهقة، بل آمن أن الفن يولد من بساطة الحياة. وفي قرية الحرّانية، أنشأ تجربة فريدة: مدرسة بلا مناهج، بلا كتب، حيث يتعلم الأطفال فن النسيج كما يتنفسون، يُبدعون دون أن يُملَى عليهم، ويخيطون بخيوط الصوف رؤاهم الطفولية العذبة في أنوال خشبية تقطر صدقًا.
لقد آمن واصف أن الإبداع لا يُعلَّم بل يُكتشف، وأن الإنسان متى ما ارتوى من الأرض واستمع لصوته الداخلي، تجلى منه الفن كما تتجلى الحياة من البذرة.
لم تكن مبانيه صامتة، بل كانت كائنات حية تتنفس وتهمس بأصوات الزمن، حيث صمّم الكنائس والمنازل والمباني الثقافية بروح تبحث عن الأصالة وتنبذ الزيف. تجولت يده في الطين والجص والخشب كما تتجول يد نحات في قلب الصخر، تُنبت منه المعنى والدفء.
الحرّانية.. الحلم الذي صارَ بيتًا وروحًا
عند أطراف القاهرة، حيث تهمس الأرض بأسرارها القديمة، ويترقرق النيل كأنه يروي الحكايات، ينتصب بيت رمسيس ويصا واصف في قرية الحرّانية، لا كمنزلٍ عادي بل ككائن حي يتنفس عبق الحرفة وحرارة الشغف؛ ليس بيتًا من حجرٍ فحسب، بل بيت من فكرة، من رؤية، من حلم آمن به صاحبه حتى صار واقعًا ينطق بالحياة.
شُيّد البيت من مواد الأرض: الطين، والجير، والخشب، دون زخرفة زائفة أو بهرجة مكررة. كانت الجدران تحاكي منحنيات الطبيعة، والأقواس تفتح نوافذ للضوء ليدخل نقيًا كما خرج من رحم الشمس.
هناك، كل زاوية تحكي، وكل حجرة تُنصت. كان رمسيس يؤمن أن المعمار الجيد لا يجب أن يتسلط على الإنسان، بل يحنو عليه، يحتضنه، ويشجّعه على أن يكون في سلام مع ذاته ومع البيئة.
أنامل الأطفال تروي حكايات مصرية بخيوط من صوف
لكن المعجزة لم تكن في الطوب، بل في النفوس التي تنبض بداخله؛ ففي فناء البيت، أنشأ واصف ما سيصبح فيما بعد أيقونة فنية وإنسانية: مدرسة السجاد اليدوي، التي لم تكن مدرسةً تقليدية، بل ورشة حب، حيث جلس الأطفال من القرية أمام الأنوال الخشبية، يحوكون بخيوط الصوف خيالاتهم، وأحلامهم، ومشاهداتهم اليومية.
هؤلاء الأطفال لم يتعلموا قواعد التصميم أو نظريات الفن، بل أُعطوا الحرية الكاملة ليبدعوا، وهنا تجلت عبقرية رمسيس، الذي آمن أن الفطرة السليمة إذا تُركت في بيئة صحية، فإنها تنتج فنًا خالصًا، نقيًا، صادقًا.
وهكذا، وُلدت من أيدي هؤلاء الصغار قطعٌ من السجاد تشبه القصائد، فيها الشمس، والحمام، والدواب، والنخيل، والمواسم، والحكايات الشعبية، وكل ما تنطوي عليه الروح المصرية.
لم يكن رمسيس يسعى لخلق "منتج"، بل رسالة. سجاده لم يُعلّق فقط في بيوت القرى، بل عبر البحار، ووصل إلى صالات العرض والمتاحف في أوروبا وأمريكا.
وأصبحت الحرّانية علامة دولية في مجال النسيج اليدوي، وواصفة لعمق مصر الثقافي وقدرتها على الإبداع من أبسط الموارد.
بيت رمسيس ويصا واصف لم يكن مأوى لحياة خاصة، بل حاضنة لحياة عامة؛ بيتًا للفن الفطري، وللجمال المولود من الأرض. هناك، تلاقت العمارة مع التربية، واختلطت الأيدي الصغيرة بخيوط الأمل، وتحولت الحكاية من جدران صامتة إلى حركة نابضة، لا تزال تُعلّم العالم كيف يُمكن لبيتٍ صغير في قرية مصرية أن يُعيد تعريف معنى الفن، والهوية، والحرية.
المعمار حينَ يهمس بالروح.. كنيسة مارجرجس ومتحف الفن الحديث
لم تكن أعمال رمسيس ويصا واصف مجرد طُرز معمارية أو مشروعات حرفية، بل كانت تجارب حيّة تمزج بين الجمال والهوية، وبين الحلم والواقع.
ولعل من أبرز وأعمق أعماله:
قرية الحرانية: أشهر إنجازاته وأكثرها تأثيرًا، وهي ليست مجرد قرية، بل "مختبر للروح"، فيها أسس مدرسة النسيج التي استقطبت أطفال القرية وعلمتهم فنون السجاد اليدوي دون كتب أو نظريات، فقط بالإبداع الفطري. واليوم، تُعرض منسوجاتهم في متاحف عالمية كأعمال فنية، لا كمنتجات.
كنيسة مارجرجس بمصر القديمة: تحفة معمارية صاغها ببصمته الخاصة، حيث امتزج الفن القبطي بالحداثة، فجاء البناء أشبه بصلاة حجرية، تفيض نورًا ووقارًا، وتعبّر عن الإيمان في أبهى تجلياته.
متحف الفن الحديث بالقاهرة: ساهم في تصميم المتحف الذي يحتضن ذاكرة مصر التشكيلية، فجاء بناؤه متناسقًا مع رسالته، يخاطب العين ويحّفز الفكر.
كما صمّم رمسيس ويصا واصف بيوتًا في منطقة الحرانية وبعض القرى، تتناغم مع البيئة المصرية وتستخدم خاماتها، مثل الطين واللبن والخشب، مانحًا للعمارة روحًا إنسانية دافئة، بعيدة عن الجمود الإسمنتي.
الإبداع الفطري.. فلسفة رمسيس ويصا واصف الخالدة
إلى جانب أعماله المادية، خلّف رمسيس إرثًا فكريًا تمثّل في محاضراته وكتاباته حول الفن والتعليم والهوية، أهمها كتابه "الإبداع الفطري".
رمسيس ويصا واصف لم يترك فقط مباني أو منسوجات، بل ترك فلسفة، رؤية، دعوة للعودة إلى الجذور، إلى اليد التي تخلق، وإلى العين التي ترى في كل تفصيلة صغيرة جمالًا لا يُقاس.
هو فيلسوف الفن، وناسك الجمال، ورائد الأصالة الذي أثبت أن الطين إذا صافح الحلم، صار فنًا خالصًا.