عاجل: اندلاع حريق في مصنع كيماويات بمركز بلبيس في الشرقية والدفع بسيارات إطفاء لإخماد النيران وفق صحف محلية.

شيرين أبو عاقلة.. الصوت الذي لم يُسكَت

تقرير

المراية

منار تامر

5/12/20251 دقيقة قراءة

في 11 مايو 2022، اهتزّت الأرض تحت وقع رصاصة الغدر الإسرائيلية التي اخترقت رأس شيرين أبو عاقلة، الصحفية التي ظلّت على مدى ربع قرن توثق الحقيقة بشجاعة، وتروي معاناة الفلسطينيين في مواجهة الاحتلال ، ومنذ ذلك الحين، أصبحت شيرين رمزًا من رموز الصحافة الحرة، وعنوانًا لصوت الحق الذي لا يمكن أن يُسكَت.

اليوم، في الذكرى الثالثة لاستشهادها، نجد أنفسنا أمام مشهد مستمر من القتل والتدمير في غزة، حيث لا تزال الصحافة تواجه التهديد ذاته، وتدافع عن الحقيقة ذاتها.

من يظن أن شيرين قد رحلت، فهو واهم؛ فذكراها حيّة في كل صحفي فلسطيني يواجه آلة القتل، في كل زاوية من زوايا غزة التي ما زالت تتنفس تحت القصف، في كل كلمة تُكتب أو تُقال لنقل الحقيقة، في كل صورة تُلتقط تحت النار، وكل شهادة تُروى رغم الخطر.

شيرين أبو عاقلة كانت، وتظل، حتى في غياب جسدها، جزءًا من كل صحفي فلسطيني في ميدان الحقيقة.

شيرين أبو عاقلة، الصحفية التي وُلدت في القدس عام 1971، هي ابنة عائلة مسيحية من بيت لحم، لكنها نشأت وترعرعت في القدس، المدينة التي لطالما كانت جزءًا من قلبها وعقلها ، تخرجت في جامعة اليرموك في الأردن، بتخصص في الصحافة والإعلام، وكان طريقها نحو المهنة أشبه بمسار نضالي طويل ، عملت في عدة مؤسسات إعلامية فلسطينية، ثم انطلقت إلى قناة الجزيرة، حيث أصبحت أحد أبرز وجوهها في تغطية الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، خاصة في القدس وقطاع غزة.

كان صوتها ينقل إلى العالم تفاصيل الجرائم اليومية التي يرتكبها الاحتلال بحق الفلسطينيين، بينما كانت كاميرتها تسجل شجاعة الفلسطينيين في مواجهتهم، وإيمانهم بحقيقة الأرض، وحلمهم بالحرية ، لم تكن شيرين مجرد صحفية، بل كانت جزءًا من حلم الفلسطينيين ومقاومتهم، حتى في قلب المعركة.

وفي قلب هذا الصراع، كانت شيرين أبو عاقلة صوت غزة في بعض من أحرج اللحظات.

غزة، التي لا تزال تنزف منذ عقود، تجد نفسها اليوم في أتون حرب مستمرة، لم تتوقف طائرات الاحتلال عن قصفها.

لكن، مثلما لم يُسكَت صوت شيرين في جنين، لم يُسكَت في غزة، حيث يستمر الصحفيون الفلسطينيون في نقل الحقيقة رغم القصف والتهديد .

غزة، هذه المدينة المحاصرة، كانت ولا تزال تحت قصف مستمر من قوات الاحتلال، حيث لا يقتصر الاعتداء على البشر، بل يمتد ليشمل كل شيء، حتى الصحافة، التي تنقل الصوت المفقود من خلف الدخان.

فالصحفيون في غزة لا يواجهون تحديات مهنية فحسب، بل خطرًا يوميًا من استهدافهم المباشر من قبل الجيش الإسرائيلي ، إنها حرب مستمرة على الصورة، على الكلمة، على الصوت ، وهذه هي الحقيقة القاسية التي يجب أن يدركها العالم.

ما يميز شيرين أبو عاقلة ليس فقط أنها كانت حاضرة في قلب المعارك، بل لأنها أصبحت بعد استشهادها رمزًا لروح المقاومة الإعلامية في وجه الظلم ، فاستشهادها، الذي وقع على يد الجنود الإسرائيليين أثناء تغطيتها لاقتحام مخيم جنين، وضعها في مكانة خاصة في الذاكرة الفلسطينية والعالمية.

كانت شيرين ترتدي سترة الصحافة التي تميزها وتعلن للعالم أنها تؤدي واجبها المهني، لكن رصاصة الاحتلال كانت تحمل رسائل عدة: إغلاق الأفواه، إخفاء الحقائق، وقمع الصوت الذي يفضح جرائم الاحتلال.

لكن شيرين لم تُسكت؛ بل أطلقت من روحها وعملها الصحفي إرثًا مستمرًا.

وقد كشف الوثائقي الأمريكي "من قتل شيرين؟" عن حقيقة استهداف الصحفية الفلسطينية، وكشف هوية الجندي الإسرائيلي الذي أطلق النار عليها، ليعيد إلى الأذهان فشل المجتمع الدولي في محاسبة إسرائيل، ليس فقط على قتل شيرين، بل على استهداف الصحافة عمومًا.

وفي خضم هذا الاستهداف المستمر للصحفيين، لا يمكن تجاهل التوازي بين استشهاد شيرين والأوضاع التي يعيشها الصحفيون في غزة اليوم ، فحتى بعد رحيلها، لا يزال الصحفيون الفلسطينيون يواجهون نفس المخاطر، حيث يُستهدفون في القصف الإسرائيلي المتكرر للمنازل والمؤسسات الإعلامية.

الصحافة الفلسطينية في غزة تشهد اليوم حربًا غير متكافئة، كما كانت شيرين في حياتها تشهدها ، وكلما سقطت قذيفة على غزة، سقطت معها الحقيقة أيضًا، لكن الصحفيين يواصلون التوثيق، يواصلون نقل الصورة التي تحكي عن الواقع البائس، إنهم لا يتحدثون عن أنفسهم، بل عن الوطن الذي يُذبح كل يوم.

لكن شيرين لم تكن وحدها، ولم تكن استثناءً، بل كانت عنوانًا لواقع مرير تعيشه الصحافة الفلسطينية منذ عقود ،

فمنذ استشهادها، قُتل أكثر من 100 صحفي فلسطيني، معظمهم في قطاع غزة، خلال العدوان الإسرائيلي المتواصل، في واحدة من أكثر الفصول دموية في تاريخ الإعلام الفلسطيني.

هؤلاء لم يسقطوا في "نيران متبادلة"، بل في عمليات استهداف واضحة، وهم يؤدون واجبهم المهني، كما كانت تفعل شيرين.

لم تكن رصاصة شيرين الأولى، لكنها كانت الأكثر فضحًا؛ إذ أكدت التحقيقات الدولية، من قبل منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، أن استهدافها كان متعمدًا، بعيدًا عن ذريعة "الاشتباك المسلح".

وجاء الوثائقي "من قتل شيرين؟" ليكشف عن الجندي الذي أطلق الرصاص، وليفضح كذلك مدى التواطؤ الدولي في التستر على الجريمة.

ورغم أن سترتها كُتب عليها "Press"، فإن الرصاصة اخترقتها، كأنها تحمل رسالة لإسكات كل من يجرؤ على قول الحقيقة ، لكن شيرين، حتى في استشهادها، لم تُسكت، بل أطلقت من رحيلها صرخة جديدة، هزّت الضمير الإنساني، رغم أن يد العدالة لا تزال مشلولة أمام سطوة الاحتلال.

لقد أصبحت شيرين، بما تمثله من شجاعة والتزام مهني، مادة تُدرَّس في جامعات فلسطينية، وملهمة لأجيال من الصحفيين،

يتناول طلاب الإعلام تجربتها كنموذج للمهنية والإنسانية، ويقتبسون من كلماتها، ومن نبرة صوتها التي قاومت الرصاص بالكلمة والصورة.

بعد رحيلها، ظهرت مبادرات صحفية فلسطينية مستقلة مثل "عين على فلسطين" و"ميجانا"، وُلدت من رحم الحاجة إلى صوتٍ لا يخضع للتمويل، ولا يرعبه الرصاص ، وفي الميدان، ظهرت أصوات شابة من الصحفيات الفلسطينيات، يحملن كاميراتهن في مواجهة الدبابات، من بينهن داليا حشيش في غزة، وهناء محاميد في القدس، وغيرهن كثيرات ممن يُكملن الدرب.

إن ما يميز شيرين أبو عاقلة ليس فقط أنها كانت الصحفية الحاضرة في قلب المعارك، بل لأنها تحوّلت إلى ضميرٍ مهنيٍ جمعي، ورمز لمقاومة الظلم بالصوت، بالصورة، وبالحقيقة.

شيرين أبو عاقلة كانت ولا تزال جزءًا من الرواية الفلسطينية التي لا تنتهي؛ هي التي نقلت معاناة الفلسطينيين، وأحلامهم، وصراعاتهم إلى العالم، وكانت تُحسن سرد القصة الفلسطينية بلسان الصحافة الحرة.

ورغم رحيل جسدها، تواصل رسالتها الحياة في كل لحظة، وفي كل خبر صحفي ينقل حقيقة الواقع الفلسطيني.

هي الصحفية التي "بدها طول نفس"، كما قالت في آخر لقاء لها، وقد كان ذلك تعبيرًا عن صمودها، الذي استمر حتى بعد رحيلها ، إن استشهاد شيرين أبو عاقلة لم يكن نهاية لقصة شجاعة الصحفيين الفلسطينيين، بل بداية لفصل جديد من المقاومة الإعلامية، التي تواجه القمع بشجاعة.

في غزة اليوم، لا يزال الصحفيون يحملون الكاميرا، يكتبون بالحبر على صفحات الحقيقة، في مواجهة أعداء الحقيقة ، شيرين كانت واحدة منهم، وسوف تبقى، عبر الأجيال، الصوت الذي لم يُسكت، والذكرى التي لا تموت.

في هذه الذكرى، لا نحيي فقط اسم شيرين، بل نحيي كل صحفي فلسطيني يعمل تحت القصف، في الميدان، ليحكي قصة شعبه، ولتظل الحقيقة حية، رغم كل محاولات إخفائها.